نتنياهو في الكونغرس- أكاذيب الحرب وتواطؤ الإبادة الجماعية في غزة.

المؤلف: روبين أندرسون10.15.2025
نتنياهو في الكونغرس- أكاذيب الحرب وتواطؤ الإبادة الجماعية في غزة.

في الخامس والعشرين من يوليو/تموز عام 2024، تجلّى مشهد بالغ الدلالة؛ حيث وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأميركي، وسط استقبال حافل وهتافات مدوية، وتقطيع لخطابه بما يفوق الخمسين تصفيقًا مدويًا. لم يكن هذا الاحتفاء الصاخب مجرد تعبير، بل تجسيدًا لتواطؤ فاضح مع الجلاد، خصوصًا بعد أيام معدودة من صدور حكم تاريخي عن محكمة العدل الدولية، يؤكد أن إسرائيل قد ارتكبت "انتهاكات جسيمة للقانون الدولي" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويحملها مسؤولية ممارسة الفصل العنصري للمرة الأولى.

إبان إلقاء ذلك الخطاب، كانت الحرب الإسرائيلية على غزة قد بلغت شهرها العاشر، وكشفت دراسة نشرتها مجلة "لانسيت" الطبية المرموقة أن القصف الإسرائيلي المتواصل، وما صاحبه من حصار خانق وقيود مشددة على المساعدات والرعاية الصحية، قد يؤدي إلى مقتل ما يزيد على 186,000 فلسطيني. كان العالم بأسره يشهد المجازر المروعة، بينما كان المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، قد طالب بإصدار مذكرة توقيف بحق نتنياهو قبل شهرين.

على الرغم من كل هذه المعطيات الصارخة، أصر نتنياهو على الوقوف أمام الكونغرس؛ ليعيد سرد ذات الأكاذيب التي تم دحضها مرارًا وتكرارًا من قبل الصحفيين الاستقصائيين ووسائل الإعلام الأميركية والعالمية، بل وحتى الإسرائيلية، مثل "الجزيرة" و"هآرتس". كما أصرّ على زعمه الباطل بأن حركة حماس "حرقت أطفالًا أحياء" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ورَوَى قصة خيالية لا أساس لها من الصحة عن مقتل طفلين كانا مختبئين في علية منزل.

كل هذه الادعاءات الزائفة تم تفنيدها وتكذيبها بشكل قاطع، وكانت جزءًا لا يتجزأ من حملة دعائية مفضوحة ومكشوفة، لدرجة أن الجيش الإسرائيلي نفسه نفى بعضًا منها. ومع ذلك، لم تبذل وسائل الإعلام الأميركية أي جهود جوهرية للتحقق من تلك الأكاذيب الملفقة.

لم يكتفِ نتنياهو في خطابه المثير بالشجب بالأكاذيب، بل عبّر عن غضبه العارم تجاه المحكمة الجنائية الدولية، التي سعت جاهدة لإصدار مذكرات توقيف بحق قادة إسرائيليين، واصفًا اتهامات المحكمة بأن إسرائيل تتعمد تجويع الفلسطينيين بأنها "مثيرة للاشمئزاز"، وواصفًا نيابتها بـ "المعادية للسامية".

وفي محاولة يائسة لمواجهة تهمة تنفيذ مجاعة مُدبرة، زعم كذبًا أن إسرائيل "يسّرت" دخول ما يقارب 40,000 شاحنة مساعدات قدمت "أكثر من 3000 سعرة حرارية لكل رجل وامرأة وطفل في غزة"، وأن حماس هي السبب الرئيسي لنقص الغذاء؛ لأنها "تستولي على المساعدات وتسرقها".

لكن الحقائق الدامغة تكشف زيف هذا الادعاء الكاذب بشكل قاطع، فالثابت والمؤكد أن إسرائيل تعمدت منع شاحنات المساعدات من الوصول، وعندما سيطرت بشكل كامل على معبر رفح الحدودي مع مصر في شهر مايو/أيار، لم تسمح بدخول أكثر من 2835 شاحنة فقط.

الصحفي القدير مهدي حسن قدم أيضًا معلومات جوهرية أغفلها نتنياهو عمدًا، مثل تقرير منظمة "أوكسفام" الذي أظهر بالأرقام أن سكان شمال غزة لم يجدوا من الغذاء أكثر من 245 سعرة حرارية يوميًا، أي أقل من علبة فول واحدة، منذ شهر يناير/كانون الثاني، وأن إجمالي شحنات الأغذية التي سُمح بها منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي بلغت في المتوسط 41% فقط من السعرات الحرارية اليومية اللازمة للشخص الواحد.

في الوقت الذي كان نتنياهو يلقي فيه خطابه المثير للجدل، كانت منصات التواصل الاجتماعي تعج بمحتويات مضللة مماثلة، مثل مقطع فيديو نشرته مجموعة تدعى "خدمة التقارير الصادقة"، ظهرت فيه امرأة متصلبة الملامح، تدعي أنها عاملة إغاثة، تردد ذات الأكاذيب الملفقة، وتزعم أن "المجاعة ببساطة غير موجودة"؛ لأن إسرائيل تتعاون مع الوكالات الإنسانية لنقل المساعدات، وتكرر الزعم الباطل بأن حماس والعصابات المسلحة هي التي تستولي على تلك المساعدات وتسرقها، وأن "المجاعة أسطورة" تروج لها وسائل الإعلام والمسؤولون والخبراء.

لكن الكذب الأكثر فظاعة وإثارة للاشمئزاز هو زعم نتنياهو الكاذب بأن القوات الإسرائيلية تبذل قصارى جهدها لحماية المدنيين الفلسطينيين، حيث وزعت "ملايين المنشورات، وأرسلت ملايين الرسائل النصية، وأجرت مئات الآلاف من المكالمات الهاتفية لتحذير المدنيين وإبعادهم عن الأذى". بيدَ أن الحقيقة المؤلمة والمفجعة هي أن هذه التحذيرات تُستخدم أحيانًا بخبث ودهاء لجمع المدنيين في مواقع محددة قبل قصفهم. ففي الثاني والعشرين من يوليو/تموز، بدأ الجيش الإسرائيلي قصف خان يونس بعد دقائق معدودة من إصدار أمر إخلاء للمنطقة، التي كانت تعتبر ملاذًا آمنًا لأكثر من 400 ألف فلسطيني.

بإمكاننا أن نطلق على هذه الادعاءات تزييفًا وتضليلًا وأكاذيبَ صريحة، لكن صحيفة "نيويورك تايمز" اختارت أن تصف خطاب نتنياهو بأنه "دفاع قوي عن إسرائيل استحق التصفيق في الكونغرس". وفي المقابل، أبدى الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي رأيًا مغايرًا تمامًا في مقابلة مصورة مع "الجزيرة"، حيث وصفها بـ "الجلسة الأكثر خزيًا في تاريخ الكونغرس الأميركي" التي شهدت تصفيقًا متواصلًا لرئيس وزراء كان يجب أن يُمنع من دخول أي عاصمة أخرى في العالم.

ورغم أن ما يقرب من نصف الديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ تغيبوا عن خطاب نتنياهو، وفقًا لموقع "أكسيوس"، إلا أن ما قامت به المشرعة الفلسطينية الأميركية رشيدة طليب كان أكثر جرأة وشجاعة من مجرد مقاطعة الجلسة، فقد اختارت الحضور وهي ترفع لافتة صغيرة كُتب عليها: "مرتكب إبادة جماعية" من جهة، و"مجرم حرب" من الجهة الأخرى.

كان لهذا المشهد الصادم واللافت تأثير بالغ على زعيم دولي واحد، وهو رئيس الوزراء البريطاني المنتخب حديثًا كير ستارمر، الذي أعلن في اليوم التالي أن المملكة المتحدة لن تتدخل في طلب المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو. كان هذا بمثابة انقلاب واضح في السياسة البريطانية عن تلك التي انتهجها سلفه المحافظ الذي أطاحت به وبحزبه الانتخابات، كما أنه ابتعاد جلي وواضح عن مواقف الحليف الأميركي.

ستارمر محامٍ مخضرم سابق في مجال حقوق الإنسان، وهو يتعرض لضغوط متزايدة من حزبه لاتخاذ موقف أكثر صرامة وصرامة بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة مع التصاعد المروع في عدد القتلى والجرحى، وهو في نهاية المطاف، كما ترى نومي بار يعقوب، الزميلة في مركز تشاتام هاوس البحثي اللندني، كان مضطرًا لاتخاذ هذا الموقف؛ لأنه لم يرَ نهاية للحرب في الأفق وينتابه القلق من أن تتهم المملكة المتحدة بالتواطؤ فيما هو موجّه لإسرائيل.

كان خطاب نتنياهو لحظة كاشفة بكل المقاييس. فقد كشفت – كما يرى الصحفي الأميركي جيفري سانت كلير – عن تواطؤ الولايات المتحدة الفاضح في الإبادة الجماعية في غزة، ودعمها المطلق لنظام الفصل العنصري البغيض في الأراضي المحتلة. لقد كانت "احتفالًا علنيًا صارخًا لأولئك الذين قاموا بتمويل وتسليح هذه الجرائم البشعة".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة